مسار الوحدة اليمنية
وجهة نظر بريطانية
*د. خالد عبد الكريم
رئيس المركز الدولي للإعلام والتنمية – فرنسا.
تُعدّ هذه الصفحات محاولة لإيجاز أبرز القضايا اليمنية التي طُرحت في ندوة هامة نظّمتها كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بالتنسيق مع الجمعية البريطانية اليمنية في أبريل 2025، تحت عنوان: “الإلمام بالماضي والحاضر لاستشراف مستقبل اليمن”. وقد مثّلت هذه الندوة فرصة للتفاعل مع نخبة من الخبراء الأكاديميين والباحثين الدوليين المهتمين بالشأن اليمني، حيث نوقشت قضايا متعددة شملت الجوانب السياسية، والبيئية، والإنسانية، ومشكلة المياه، إضافة إلى التحديات التي تواجه الشعب اليمني في ظل الأزمة المستمرة.
نستعرض هنا بعض محاور تلك الندوة، مع التركيز على المداخلة الرئيسة التي قدّمتها الكاتبة والباحثة البريطانية هيلين لاكنر، والتي اشتملت على تحليلات معمّقة للأبعاد السياسية والإنسانية للأزمة اليمنية.
سنعمل على تحليل واستنتاج العوامل التي سبقت الوحدة اليمنية عام 1990، مع تناول تداعيات غياب الإدراك التاريخي العميق لطبيعة ذلك الحدث المفصلي. ونتيح المجال للإطلاع على رؤى خارجية شبه محايدة، تعبّرعن اهتمام جاد بقضايانا، وتطرح زوايا نظر جديدة قد تفتح آفاقاً لفهم الأزمة اليمنية وسبل الخروج منها.
هيلين لاكنر، باحثة وكاتبة بريطانية، عملت في اليمن منذ سبعينيات القرن الماضي، وشغلت مناصب استشارية في قضايا التنمية الريفية والاجتماعية في أكثر من ثلاثين دولة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأوروبا.
في محاضرتها، تناولت الجمهوريتين السابقتين لدولة الوحدة – الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية – مستعرضةً أوجه التباين والالتقاء بين النظامين، قبل أن تنتقل إلى مرحلة الوحدة اليمنية وتقدم رؤيتها التحليلية الخاصة بشأنها.
جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية
تميّزت بنظام مركزي صارم ذي طابع اشتراكي، احتكر فيه الحزب الاشتراكي اليمني السلطة، وركّز على التنظيم المؤسسي والانضباط الإداري، في ظل نظام قانوني وأمني واضح المعالم.
لكن، كما تشير لاكنر، فإن هذه الدولة واجهت إخفاقات ذات جذور داخلية وخارجية. فعلى الرغم من هشاشة البنية الداخلية، والتوترات المناطقية، والقصور الإداري، فإن العامل الخارجي لعب دوراً جوهرياً. إذ وُجدت الدولة الناشئة في بيئة إقليمية معادية، ترفض وجود نظام يساري في جنوب الجزيرة العربية. وأسهمت الحرب الباردة والتجاذبات الإقليمية في عزل اليمن الجنوبي والتضييق عليه إقتصادياً وسياسياً، ما أعاق قدرته على تجاوز أزماته البنيوية.
وفي قراءة نقدية للتجربة اليسارية خلال السبعينيات، تُشير الباحثة إلى أن السياسات الاشتراكية الراديكالية – لا سيما التأميمات الواسعة – لم تفرّق بين كبار الملاك وصغار التجار والحرفيين، مما أفضى إلى اختلالات عميقة في بنية الاقتصاد.
كما شمل الإصلاح الزراعي إجراءات حادة تمثلت في مصادرة أراضي السلاطين والإقطاعيين، ولكن أيضاً أراضي الفلاحين الصغار، لتحويلها إلى ملكية جماعية تديرها تعاونيات زراعية تابعة للدولة. وبدلاً من تمكين الفلاحين وتعزيز الإنتاج الزراعي، أدت هذه الخطوات إلى تراجع الحوافز الفردية، وانهيار في الإنتاجية، وتوقف شبه كامل للحياة الاقتصادية في الريف.
وقد نجم عن هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية نزوح واسع للمستثمرين والتجار، فضلاً عن انسحاب الشركات الأجنبية، مما فاقم من عزلة الاقتصاد الجنوبي واعتماده شبه الكامل على الدعم الخارجي.
وتعزو الباحثة البريطانية هيلين لاكنر، التي شاركت عن قرب في مشاريع التنمية الريفية خلال تلك الفترة، هذه السياسات الصادمة إلى الحماسة الثورية المفرطة لدى قيادات شابة كانت حديثة العهد بالحكم. وترى أن تلك الإجراءات لم تستند إلى دراسات واقعية أو تقييمات موضوعية، بل جاءت تعبيراً عن اندفاع أيديولوجي هدف إلى إحداث قطيعة جذرية مع الماضي، دون تبصر بالعواقب الاجتماعية والاقتصادية
لكن، رغم التحديات البنيوية التي رافقت تطبيق السياسات الاشتراكية في جنوب اليمن خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، فقد أسفرت تلك التجربة عن مكاسب اجتماعية مهمة، لاسيما في قطاعات التعليم والصحة وحقوق المرأة. وتُجمع العديد من الدراسات الميدانية، ومنها ما أشارت إليه الباحثة البريطانية هيلين لاكنر، على أن الدولة الجنوبية تبنّت رؤية تقدمية نسبياً في هذه المجالات، مقارنة بما كان سائداً في المنطقة آنذاك.
في مجال التعليم، عملت الدولة على توسيع قاعدة التعليم العام وتعميمه، من خلال بناء المدارس وتعميم التعليم الأساسي المجاني، مع إعطاء أولوية واضحة لمحو الأمية. وقد أطلقت حملات شاملة لمحو أمية الكبار، ساهمت في رفع مستويات الوعي والتعليم لدى شرائح واسعة من السكان، خصوصاً في الأرياف والمناطق النائية.
أما في القطاع الصحي، فقد سعت السلطات إلى إنشاء شبكة من المراكز والوحدات الصحية الحكومية، مع تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية مجاناً للمواطنين. ورغم ضعف الإمكانيات، إلا أن تلك الجهود مثلت نقلة نوعية في تحسين مؤشرات الصحة العامة، خصوصاً في مجالات رعاية الأمومة والطفولة والوقاية من الأمراض المعدية.
وفيما يتعلق بـتمكين المرأة، فقد شهدت تلك الفترة خطوات رائدة نسبياً، حيث سُمح للنساء بالمشاركة في التعليم والعمل في مختلف القطاعات، بما في ذلك المجالات الإدارية والتعليمية والطبية. كما سعت الدولة إلى تعزيز المساواة القانونية بين الجنسين، مما شكّل أرضية قانونية واجتماعية لدور أكثر فاعلية للمرأة في الحياة العامة.
وتُعد هذه التحولات الاجتماعية من أبرز الجوانب المضيئة في تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، حيث شكلت نموذجاً فريداً في السياق الإقليمي، يعكس تأثير التوجهات الاشتراكية في تعزيز مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة.
الجمهورية العربية اليمنية
تَمثّل نظام الحكم فيها بنموذج تقليدي هجين، يدمج بين البيروقراطية الحديثة والأعراف القبلية، مع هيمنة العلاقات الشخصية والمحسوبية في عملية اتخاذ القرار، مما خلق تباينات في تطبيق القانون ومرونة غير منضبطة في أداء مؤسسات الدولة.
تحدّثت لاكنر بإيجاز عن مرحلة عدم الاستقرار السياسي في شمال اليمن (1970–1978) التي شهدت سلسلة من الانقلابات والتحولات المتسارعة.
تميّزت الجمهورية العربية اليمنية خلال السبعينيات بمفارقة اقتصادية لافتة، أشار إليها عدد من الباحثين، منهم هيلين لاكنر، وهي أن الدولة كانت تعاني من شحّ الموارد وعجز مزمن في موازناتها، بينما كان وضع العديد من المواطنين المالي جيداً، بل وميسوراً في بعض الحالات.
ويُعزى ذلك إلى التحولات العميقة التي شهدها المجتمع اليمني بفعل الهجرة الواسعة إلى دول الخليج العربي، خصوصاً المملكة العربية السعودية، خلال فترة الطفرة النفطية. إذ شكّلت تحويلات المغتربين مصدراً أساسياً للدخل لكثير من الأسر اليمنية، ما أتاح لها مستوى من الرفاهية والاستهلاك لم يكن معتمداً على الدولة أو على الاقتصاد المحلي الهش.
وبينما كانت مؤسسات الدولة تعاني من ضعف في الإيرادات العامة واعتماد شبه كامل على المساعدات الخارجية، كانت التحويلات المالية الخاصة تخلق اقتصاداً موازٍ غير رسمي يدعم الاستهلاك العائلي، ويغذي السوق المحلي دون أن يسهم في تطوير البنية الإنتاجية أو تقوية الدولة كمؤسسة.
هذه المفارقة بين إفلاس الدولة ورفاه المواطن ساهمت في تأجيل الانفجار الاجتماعي، لكنها أيضاً كرّست اعتماداً مفرطاً على الخارج، وأضعفت قدرة الدولة على بناء اقتصاد وطني مستدام.
(لحظة ضائعة في مسار التنمية اليمنية خلال الحرب الباردة)
في ذروة الحرب الباردة، حين بلغ التنافس بين الكتلتين الغربية والشرقية مداه في الثمانينيات، لم يكن الصراع يدور فقط حول التسلح أو النفوذ الجيوسياسي، بل تَجلى أيضاً في سباق محموم لنموذجَي الحياة والتنمية. وقد سعت القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، إلى تقديم مساعدات مالية وتقنية وتنموية سخية لحلفائها أو للدول التي يمكن اجتذابها إلى معسكرها، كجزء من استراتيجية “احتواء الشيوعية” عبر تحسين مستوى المعيشة وإظهار تفوق النموذج الرأسمالي.
في هذا السياق، تلقت الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن) دعماً سخياً من أطراف دولية وإقليمية، لا سيما من دول الخليج، وبدت آنذاك في موقع يؤهلها لتبني سياسات تنموية طموحة تقودها إلى تحقيق قفزة اقتصادية نوعية، كما فعلت دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، التي استفادت من نفس المناخ الدولي لدفع عجلة التحديث الشامل.
لكن، وعلى الرغم من بعض مظاهر التحسن، مثل ما شهدته قطاعات الاتصالات في شمال اليمن – وهو ما أشارت إليه الباحثة في محاضرتها – فإن الدولة لم تنجح في ترجمة الفرصة التاريخية إلى مشروع نهضوي حقيقي. فقد غابت الرؤية التنموية المتكاملة، وعجزت البنية المؤسسية عن مواكبة التحديات، وعانت الإدارة من الفساد، وافتقرت إلى الكفاءات المؤهلة لوضع سياسات اقتصادية استراتيجية. كما أن البيئة التشريعية الاستثمارية ظلت طاردة، وهو ما قلص فرص الاستفادة من المساعدات وتحويلها إلى استثمارات إنتاجية.
وعلى النقيض، فإن النمور الآسيوية وضعت استراتيجية واضحة لاستغلال ظرف الحرب الباردة عبر جذب رؤوس الأموال، وتحديث التعليم، وبناء جهاز بيروقراطي كفء، وتحقيق استقرار سياسي نسبي، مما مهد الطريق أمام قفزاتها الاقتصادية.
لقد كانت الجمهورية العربية اليمنية مرشحة لتكون ضمن هذه التجارب، خصوصاً أن التنافس مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب) منحها دفعة دعم كبيرة من المانحين، رغبة في تقليص جاذبية النموذج الاشتراكي، لكن تلك الفرصة التاريخية أُهدرت، لتُضاف إلى سلسلة من اللحظات الضائعة في التاريخ الاقتصادي اليمني الحديث.
الجمهورية اليمنية
انتقلت لاكنر للحديث عن الوحدة اليمنية، التي وصفتها بأنها كانت حلماً وجودياً لمعظم اليمنيين. لكنها لفتت إلى وجود دوافع جانبية ومادية ساهمت في تسريع الوحدة، منها الدافع الاستهلاكي في الجنوب.
إلى جانب الحنين العاطفي والتاريخي إلى لحظة “لمّ الشمل”، كان هناك دافع آخر لا يقل تأثيراً في التوجه نحو الوحدة اليمنية، خصوصاً من الجانب الجنوبي، وهو التطلع إلى نمط حياة استهلاكي أكثر تنوعاً ورفاهاً. فقد عاش الجنوبيون خلال الحقبة الاشتراكية في ظل نظام يقوم على تقييد المبادرة الفردية، ومراقبة السوق، وتوزيع السلع وفق الحاجات الأساسية، مما جعل معظم السكان يفتقرون إلى حرية التملك الشخصي والاختيار الاستهلاكي.
ومع تحسن الأوضاع المالية لدى شرائح واسعة من المجتمع الجنوبي في أواخر الثمانينيات، خاصة مع انفتاح نسبي على التحويلات الخارجية ورفع بعض القيود، برز تناقض حاد: توفر المال من جهة، وشُحّ الخيارات في السوق من جهة أخرى. كانت المتاجر مليئة بالسلع الضرورية، لكن الرغبة الشعبية تجاوزت حدود الضرورة، وبدأ الناس يحلمون بما كان محظوراً أو حكراً على النخبة الحاكمة: السيارات الفارهة، الأجهزة الحديثة، البيوت الخاصة، وحتى السفر والاستهلاك الرمزي لمظاهر الحياة “الرأسمالية”.
لقد عبّرت هذه النزعة عن حالة من التوق المكبوت إلى الاستهلاك والانتماء إلى عالم أكثر انفتاحاً، حيث ترتبط الوحدة في الوعي الشعبي الجنوبي لا فقط بمشروع وطني جامع، بل أيضاً بإمكانية الوصول إلى نمط حياة مختلف، أكثر حرية وثراء وتنوعاً.
ولذلك، فإن الدافع الاستهلاكي لم يكن مجرد مسألة فردية أو مادية سطحية، بل شكّل بُعداً نفسياً واقتصادياً عميقاً، غذّى القبول الشعبي لفكرة الوحدة، وجعل من الانضمام إلى دولة تُصوَّر على أنها أكثر انفتاحاً اقتصادياً (الجمهورية العربية اليمنية) وسيلة لتحقيق أحلام مؤجلة وطموحات معيشية طال انتظارها.
كما لم يُبدِ كثير من الجنوبيين اعتراضاً على زوال بعض الامتيازات المتقدمة لديهم في مجالي الصحة والتعليم.
من جانبهم، كان الشماليون – وفق شهادة لاكنر – يتطلعون إلى أمرين أساسيين:
1.تنظيم تعاطي القات، كما في الجنوب، حيث كان متاحاً فقط في عطلات نهاية الأسبوع، خلافاً للشمال الذي كان القات فيه متاحًا طوال الأسبوع.
2.تطبيق قانون الأسرة الجنوبي، خاصة من قبل النساء، لما فيه من حقوق متقدمة، منها المساواة في إعالة الأسرة، وتقييد تعدد الزوجات.
وتؤكد لاكنر أن ما ميّز السنوات الأولى من عمر دولة الوحدة هو الانفتاح السياسي الواسع وازدهار الحياة الحزبية وحرية التعبير، خصوصاً خلال عامي 1991 و1992، واصفة تلك المرحلة بـ”المذهلة”.
(السلاح في الحياة اليومية: من العُرف إلى الانفلات.)
تُلفت الباحثة هيلين لاكنر إلى أن ظاهرة حمل السلاح بين المواطنين في الجمهورية العربية اليمنية كانت راسخة منذ عقود، حتى أن مشهد الرجل الذي يتجول في الشارع وهو يحمل سلاحه كان أمراً اعتيادياً في الثمانينيات. لكن هذه الظاهرة، التي بدأت بوصفها جزءاً من العرف الاجتماعي والثقافة القبلية، سرعان ما تفاقمت بعد الوحدة اليمنية في عام 1990، لتتسع رقعتها وتشمل مختلف أنحاء البلاد.
ومع مرور الزمن، تحوّل السلاح من رمز للهوية أو وسيلة للدفاع الشخصي، إلى عنصر تهديد مباشر للنظام العام والسلم الاجتماعي. فسهولة اقتناء الأسلحة، وغياب الرقابة القانونية، وانتشار ثقافة العنف، كلها عوامل أسهمت في تقويض سلطة الدولة وتعميق الفوضى.
إن تراكم السلاح في أيدي المدنيين، دون ضوابط أو رادع مؤسسي، خلق بيئة خصبة للنزاعات المزمنة، وكرّس مناخاً من الخوف، وأضعف فرص بناء دولة مدنية حديثة تحتكر وحدها أدوات العنف المشروع.
ثم تناولت الباحثة الحرب الأهلية الأولى في الدولة الموحدة عام 1994، مشيرة إلى التناقض البنيوي العميق بين نظامين مختلفين: رأسمالي تقليدي في الشمال، واشتراكي مخطط في الجنوب.
وتوضح لاكنر أن مشروع الوحدة لم يُبنَ على أسس تكاملية أو مشروع وطني مشترك، بل على تفوق طرف على آخر. كما تؤكد أهمية البعد الشعبي في الدفع نحو الوحدة، في مقابل فشل النخب السياسية في تحويل ذلك الحلم إلى واقع مستدام.
(نحو أفق مختلف لليمن)
بين صفحات هذا العمل، استعرضنا الماضي القريب كما هو، بكل ما يحمله من تعقيدات وتشظيات ومآسٍ متراكمة. غير أن الحديث عن المستقبل لا يكتمل دون فسحة أمل، ورؤية تتجاوز اللحظة الراهنة نحو ما يمكن أن يكون عليه اليمن، لو أُتيحت له فرصة حقيقية للنهوض.
إن الرؤية التي أُختتمت بها الندوة، لم تأتِ من باب التفاؤل العاطفي، بل من إيمانٍ متجذر بأن التغيير ممكن، وأن اليمن ليس قدره البقاء في دوامة الانهيار. هذه الرؤية تضع نصب أعينها دولة حديثة تحكمها المؤسسات ويعلو فيها صوت المواطن، حيث تُعاد صياغة الأولويات لصالح الإنسان وكرامته.
يبدأ هذا التحول ببناء مشروع ديمقراطي حقيقي، يرتكز على إصلاحات جذرية في بنية الدولة، وينطلق من تغيير عميق في التعليم، باعتباره الأساس لأي تحول اجتماعي أو سياسي. ولا يمكن توقع نتائج ملموسة في هذا المجال قبل مرور أكثر من عقد على الأقل، وهي فترة ضرورية لتكوين جيل جديد من الفاعلين القادرين على كسر القوالب القديمة وإنتاج واقع مختلف.
تتسع هذه الرؤية لتشمل بنية تحتية متطورة، واقتصاداً نابضاً بالحيوية، قائماً على المعرفة والعدالة، يتغذى من تعليم عالٍ وجامعات تُخرّج طاقات فاعلة، بدلاً من البطالة المقنعة. كما تضع في صلب اهتمامها إدارة متوازنة للموارد الطبيعية، خصوصاً المياه، التي عانت من سوء الاستخدام لعقود، وتتطلب سياسات بعيدة المدى تقوم على الحفاظ والتجديد.
الجانب التنموي كذلك ليس مغيّباً، بل يُعاد فيه الاعتبار لقطاعات ظلت مهمشة، كالثقافة والسياحة والحرف والتقاليد، في إطار رؤية أخلاقية للتنمية لا تقوم على الربح فقط، بل على حفظ الموروث وتعزيز الهوية. كما تُطرح فكرة إعادة إحياء الثروات البحرية والزراعة المطرية، بشرط أن تُدار بأساليب تراعي البيئة وتقلل من استنزاف الموارد.
أما من الزاوية الاجتماعية، فإن المجتمع المنشود هو ذلك الذي تُكفل فيه حقوق المرأة والرجل على قدم المساواة، ويُحتفى فيه بالتنوع الثقافي، حيث تُصان الموسيقى والأدب والعمارة والفولكلور كعناصر تكوينية للهوية الوطنية، لا كترفٍ هامشي.
وفي الإطار الإقليمي والدولي، فإن الدعم الحقيقي لليمن لا يُقاس بما يُقدم من أموال أو مساعدات، بل بما يُكف عنه من تدخلات وضغوط. الحاجة قائمة إلى شريك جوار قوي يساند، وإلى موقف دولي نزيه يُنصف اليمن كدولة ذات سيادة، لا كملف إغاثي دائم.
تلك خطوطٌ عامة لرؤية قابلة للتطبيق متى ما وُجدت الإرادة الصادقة، محلياً وخارجياً.
وإذ نطوي هذه الصفحات، نود أن نعيد التذكير أن ماجاء فيها ماهو إلا شذرات سطرناها في ذكرى الوحدة اليمنية. أما القضايا الأخرى التي تناولتها الندوة وهي الأكثر أهمية كونها تشخص الوضع الراهن بأبعاده السياسية والإقتصادية و ترسم متطلبات الغد. ستجد طريقها إلى النشر في كتاب سيصدر قريباً بعنوان ( الخروج من المتاهة - اليمن وأسئلة المستقبل ).